Wed Sep 27 17:24:00 CEST 2023
قلبت المضادات الحيوية عالم الطب رأساً على عقب منذ اكتشافها قبل ما يقرب من تسعة عقود. وقد كان لهذا الاكتشاف دور فعال في مكافحة الأمراض الفتاكة والموهنة وفي إنقاذ عدد لا يحصى من الأرواح. ولكن، يشكل سوء استخدام هذه المضادات الحيوية خطراً على الصحة العامة. فكلما شاع وصفها وسوء استخدامها أكثر، كلّما طوّرت البكتيريا القدرة على مقاومتها، مما قد يقلل من فعالية هذه الأدوية. ومن المحتمل أن تقوض مقاومة المضادات الحيوية واحدة من أعظم الطفرات الطبية، مما يجعل هذه الظاهرة مصدر قلق لواضعي السياسات في جميع أنحاء العالم.
كان اكتشاف البنسلين في عام 1928 كأول مضاد حيوي في العالم بمثابة لحظة مفصلية في مسار التقدم الطبي، أدّت إلى خفض معدلات الوفيات بشكل كبير ورفع متوسط العمر المتوقع على صعيد العالم. ومع الأسف، وبعد 90 عاما فقط، نشهد اليوم تراجع فعالية هذه "الأدوية السحرية". وها هي الأمراض المعدية التي تغلبت عليها المضادات الحيوية تستعيد ضراوتها اليوم. وقد تختلف آليات هذا التغير، ولكن النتيجة واحدة ولا لُبس فيها: تتطور البكتيريا لتُقاوم الأدوية التي طورناها نحن للقضاء عليها في المقام الأول. وتضمن عملية الانتقاء الطبيعي أن هذه السلالات المقاومة للمضادات الحيوية لا تنجو من فتك الأدوية فحسب، بل إنها تتكاثر، وتمرر سماتها الوراثية المُقاومة للأجيال القادمة من البكتيريا.
تبعث التكلفة المالية والبشرية لتزايد نسبة مقاومة مضادات الميكروبات (AMR) على القلق. ووفقا للتوقعات، فقد تتجاوز تكلفة التداعيات الاقتصادية بحلول عام 2050 مبلغ 2 تريليون دولار أمريكي على مستوى العالم، مما سيزج بـ 28 مليون شخص في خانة الفقر. وتزيد الدراسات الحديثة، مثل تلك التي نُشرت في مجلة لانسيت في عام 2022، من حِدّة هذه المخاوف، إذ تسببت الالتهابات الناجمة عن بكتيريا مقاومة للأدوية في ما يقرب من خمسة ملايين وفاة في عام 2019. وتكشف الدراسة ذاتها أن مقاومة مضادات الميكروبات تحتل حاليا المرتبة الثالثة في العالم كأولى المسببات الرئيسية للوفاة، وتسبقها فقط أمراض القلب والسكتة الدماغية في المرتبتين الأولى والثانية، وتخطت نسبة فتكها عدد الوفيات الناجمة عن فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز وسرطان الثدي والملاريا.
والأدهى من ذلك أن التهديد الناجم عن مقاومة مضادات الميكروبات يؤثر بشكل ملموس على معظم أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر للأمم المتحدة، سواء ارتبطت بالقضاء على الفقر أو تحقيق المساواة أو رعاية الحيوان. ويرتبط الهدف الثالث: "الصحة الجيدة والرفاه" بشكل وثيق بظاهرة مقاومة مضادات الميكروبات. ففي عام 2019، أُدرج مؤشر جديد لمقاومة مضادات الميكروبات في إطار رصد الهدف الثالث للتنمية المستدامة. ويرصد هذا المؤشر تواتر التهابات مجرى الدم المبلغ عنها والناتجة عن اثنين من مسببات الأمراض المقاومة للعقاقير: المكورات العنقودية الذهبية المقاومة للميثيسيلين (MRSA)؛ والعصيات القولونية (E. coli) المقاومة للجيل الثالث من السيفالوسبورين.
لفهم ظاهرة مقاومة مضادات الميكروبات، يجب دراسة أسبابها الجذرية، والتي يمكن تقسيمها إلى أربع فئات شاملة: الإفراط في الاستخدام وسوء الاستخدام لدى البشر، والممارسات السيئة المماثلة في مجال تربية الحيوانات، وتصريف النفايات الصلبة والسائلة غير المعالجة من المستشفيات، والنفايات الصناعية والبشرية. وتزيد ظاهرتا تغير المناخ وتلوث الهواء المشهد تعقيداً، مما يسارع وتيرة ونطاق تفشي الأمراض، الذي يؤدي بدوره إلى تفاقم الأمراض المعدية.
ويعتبر الإفراط في وصف المضادات الحيوية والتداوي الذاتي بها أهم عناصر مشكلة الإفراط في الاستخدام وسوء الاستخدام لدى البشر. إذ كشفت دراسة أجراها البنك الدولي في عام 2017 في ستّ دول نامية أن أكثر من 60٪ من زيارات الصيدليات نتجت عن إعطاء مضادات الميكروبات لطالبيها دون تشخيص سريري. ولا تقتصر هذه المسألة على الرعاية الأولية فحسب؛ إذ تشير دراسة منفصلة إلى أن ما يقرب من ثلث وصفات المضادات الحيوية التي تُصرف في غرف الطوارئ في الولايات المتحدة، و 40٪ من المضادات الحيوية التي يتلقاها المرضى قبل الجراحة وتلقي العلاج الكيميائي في أستراليا، لم تكن في محلّها. وخلصت دراسة أجرتها منظمة الصحة العالمية في أوروبا عام 2022 إلى أن واحدا من كل اثنين من المرضى استخدم المضادات الحيوية المتبقية من وصفة طبية سابقة أو حصل عليها دون وصفة طبية أصلاً. والأرجح أن هذا الميل إلى العلاج الذاتي، والذي يُتوقع أن يكون أكثر انتشارا في البلدان النامية، يرجع إلى نقص الوعي وارتفاع تكاليف الرعاية الصحية ومحدودية إمكانية الحصول على الرعاية الجيدة.
وفي جوهرها، تطرح مقاومة مضادات الميكروبات سلسلة من التحديات المترابطة التي تتعلق بتوفر الأدوية والقدرة على تحمل تكاليفها (مسائل الوصول) والاستخدام المستدام للمضادات الحيوية (مسائل الحفظ والإشراف)، بالإضافة إلى الحاجة إلى تطوير تشخيصات ولقاحات وعلاجات (مسائل الابتكار) التي من شأنها أن تقلل من الحاجة إلى استخدام المضادات الحيوية أساساً.
لعل التحدي الأكبر يكمن في مجال الابتكار - أو بالأحرى في انعدام الابتكار. فعلى سبيل المثال، واعتبارا من عام 2019، لم يكن بالإمكان وصف سوى ستة من أصل 32 من المضادات الحيوية التي بلغت مرحلة التطوير السريري من ضمن قائمة منظمة الصحة العالمية لمسببات الأمراض ذات الأولوية بأنها "مبتكرة"، وذلك استنادا إلى معايير الابتكار التي وضعتها منظمة الصحة العالمية والتي تنص على أن يكون الدواء من فئة كيميائية جديدة وذا هدف جديد وطريقة عمل جديدة لمكافحة مسبب مرض ما، دون وجود أي مقاومة متقاطعة معروفة لمسبب المرض. وتشير دراسة أخرى إلى أن 16٪ فقط من المضادات الحيوية الجديدة قيد التطوير (سبعة من أصل 43) يمكن وصفها بأنها "رائدة". ولعل أكبر عوائق الابتكار يكمن في مواءمة الحوافز الاقتصادية وديناميات سوق شركات تصنيع المستحضرات الصيدلانية وغيرها من أصحاب المصلحة.
يمكن لحقوق الملكية الفكرية، بما في ذلك البراءات، أن تكون أدوات لتحفيز البحث والتطوير (البحث والتطوير في مجال التكنولوجيا الصحية، بما في ذلك الأدوية والتشخيص والعلاج). ويمكن أن تمنح حقوق الملكية الفكرية فرصة للتفرد في السوق لفترة زمنية محددة، وبذلك فهي تكافئ الاستثمارات الكبرى من قبيل التمويل ورأس المال الفكري وغيرها من الموارد الضرورية للبحث والتطوير، كما أنها أيضاً أصول غير ملموسة تعزز قيمة مختلف أصحاب المصلحة في السوق. فعلى سبيل المثال، وفي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، جرى تطوير مضادات حيوية رائدة مثل الستربتوميسين بفضل التعاون البحثي بين جامعة روتجرز وشركة ميرك، وهي مبادرة دعمتها حقوق البراءات.
تشير الاتجاهات الحديثة إلى وجود سوق واضحة ومجالات شاسعة للبحث والتطوير. وتحتل شركات التكنولوجيا الحيوية الصغيرة ومراكز البحوث الأكاديمية على نحو متزايد طليعة رواد الحلول لمسألة مقاومة مضادات الميكروبات، وتجذب هذه الشركات أحياناً استثمارات من الشركات الصيدلانية الكبرى. فعلى سبيل المثال، أبرمت شركة فورج ثيرابيوتيكس، التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرا لها، في عام 2020 اتفاقا هاما مع شركة روش، وهي شركة أدوية كبرى مقرها سويسرا، بشأن مضاد حيوي يستهدف العدوى البكتيرية المقاومة للعلاج. وجلبت الصفقة معها حافزا كبيرا لتعزيز أبحاث شركة فورج في مجال مقاومة مضادات الميكروبات. وشرعت شركات أخرى مثل سانوفي في اتخاذ مبادرات جديدة من قبيل نقل التكنولوجيا لتسهيل إنتاج المضادات الحيوية محليا في نيجيريا.
وتتسم دوافع الابتكار في مجال التكنولوجيا الصحية بالتعقيد، وتمتد إلى ما هو أبعد من المكاسب المالية البحتة. والشراكات بين مختلف أصحاب المصلحة آخذة في الظهور، ما قد يؤدي إلى تحول أوسع في الاستراتيجية والسلوك الصيدلاني. وتدفع نماذج البحث والتطوير التقليدية والجديدة والمفتوحة هذه الشراكات، ما قد يستجيب للتحديات التي تفرضها ظاهرة مقاومة مضادات الميكروبات.
فضلاً عن البحث والتطوير الداخلي المعتاد الذي تضطلع به الشركات الصيدلانية، تحرز منظمتان رائدتان تقدماً ملحوظاً في مجال أبحاث المضادات الحيوية هما الشراكة العالمية للبحث والتطوير في مجال المضادات الحيوية (GARDP) ومسرع بحوث الأدوية الحيوية لمكافحة البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية (CARB-X). وتعمل شراكة GARDP على تسريع البحث والتطوير وتعزيز الوصول إلى علاجات الالتهابات المقاومة للأدوية من خلال العمل مع شركاء من القطاع العام والخاص وغير الربحي. ويبحث مسرّع CARB-X عن المواهب على الصعيد العالمي، كما يقدم النصح والإرشاد للتكنولوجيات الوليدة المضادة للبكتيريا، ما يدفعها نحو الأمام بفضل بلوغها مرحلة التجارب السريرية.
في عام 2022، أبرمت GARDP اتفاقية لترخيص ونقل التكنولوجيا مع شركة Shionogi، وهي شركة أدوية مقرها اليابان، بهدف توسيع وتسريع الوصول إلى العلاج بالمضادات الحيوية ضد بعض الالتهابات البكتيرية لدى البالغين. ويمثل التعاون بين GARDP و Shionogi ومبادرة كلينتون للوصول إلى الصحة (CHAI) طفرة في مجال منح التراخيص الطوعية لتمكين الوصول إلى مضادات حيوية أكثر حداثة. ولهذا الترخيص أهمية استراتيجية بصفته أول اتفاقية تركز على المضادات الحيوية لها دافع يتعلق بأولويات الصحة العامة. وعلى القدر ذاته من الأهمية، مُنح هذا الترخيص من قبل واحدة من قلة من شركات الأدوية المتوسطة أو كبيرة الحجم التي لديها محفظة نشطة في مجال تطوير المضادات الحيوية.
وفي الآونة الأخيرة، في عام 2023، وقّعت GARDP اتفاقية ترخيص فرعي مع شركة Orchid Pharma Ltd، وهي شركة صيدلانية مقرها الهند. وتتضمن اتفاقية الترخيص الفرعي للتصنيع أحكاما مهمة تتعلق بالوصول والبيئة والإشراف، بما في ذلك أحكام بشأن التسعير على أساس التكلفة والربح، مع الالتزام بخفض التكاليف حسب حجم الإنتاج للمساعدة في ضمان أن يكون المنتج في متناول كل من المرضى والأنظمة الصحية في البيئات منخفضة الموارد.
يتطلب التصدي لظاهرة مقاومة مضادات الميكروبات مجهوداً يتعدى الأعمال الخيرية ومواءمة حوافز السوق والإبداع التقني؛ كما يتطلب تحولا في الاستراتيجية والأولويات الصحية العالمية. فقد قطعت منظمة الصحة العالمية، على سبيل المثال، أشواطاً مهمة لتطوير نُظم مثل نظام تصنيف المضادات الحيوية (AWaRe) الهادف إلى تحسين الإشراف على المضادات الحيوية والتأكيد على أهمية استخدامها السليم. كما أطلقت المنظمة النظام العالمي لمراقبة مقاومة مضادات الميكروبات واستخدامها (GLASS)، وهو ثمرة أول جهد تعاوني عالمي لتوحيد مراقبة مقاومة مضادات الميكروبات. ومع ذلك، لا يزال استخدام برامج المراقبة نادرا في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط، مما يُعسّر تحديد الحاجة إلى منتج معين.
يتطلب التصدي لمقاومة مضادات الميكروبات تحولا في الاستراتيجية الصحية العالمية، بما يتماشى مع مبادئ الصحة الواحدة. وتشير مبادرة "الصحة الواحدة" إلى نهج متكامل ومتعدد التخصصات والقطاعات، يهدف لمعالجة التحديات الصحية العالمية، بما في ذلك مقاومة مضادات الميكروبات، التي تضمّ كذلك الجهات الفاعلة والقطاعات غير الصحية. وجرى توقيع مذكرة تفاهم رباعية (MoU) من قبل منظمة الصحة العالمية والمنظمة العالمية لصحة الحيوان (WOAH) ومنظمة الأغذية والزراعة (FAO) وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) في عام 2022. وتقدم هذه الاتفاقية إطارا رسميا للمنظمات الأربع لمعالجة التحديات التي تطرحها مقاومة مضادات الميكروبات على الإنسان والحيوان والنبات والنظام البيئي، وذلك باستخدام نهج أكثر تكاملاً وتنسيقاً. وبناء على مذكرة التفاهم هذه، وضعت المنظمات الأربع خطة العمل المشتركة للصحة الواحدة (2022-2026) والتي تهدف إلى دفع التغيير والتحول المطلوبين للتخفيف من تأثير التحديات الصحية الحالية والمستقبلية على الإنسان والحيوان والنبات والبيئة على الصعيدين العالمي والوطني. وتدعم الويبو بدورها العمل الجاري بشأن الصحة الواحدة دعماً فعالاً.