ما يكمن في الأسفل: القصة المجهولة للابتكار في مجال الأدوية الحيوية
وري سالزبورغ، نائب الرئيس والرئيس العام المعني بشؤون الملكية الفكرية، نوفارتيس
تُصور غالباً العبقرية على أنها أرخبيل من لحظات نشوة بالاكتشاف تنشأ في بحر يظل فارغاً لولا ذلك...ولعل من خير الأمثلة على ذلك أذكر: نيوتن والتفاحة، وأرخميدس وحمامه، وأينشتاين في حلم اليقظة الذي أفرز نظرية النسبية العامة، وفارنزوورث في حقل الذرة الذي كانت صفوفه المحروثة بدقة أساس اختراعه للتلفزيون، والقائمة طويلة.
ولا شك أن الاختراع والاكتشاف هما من المساعي التي لا يمكن التنبؤ بهما واللاخطية وغير المتوقعة، وهي خطوة إلى الأمام وثلاث خطوات إلى الوراء. وفيما تحتل اللحظات التي تطلق فيها عبارة "وجدتها" مكانة لامحالة، يكون الابتكار الحقيقي-الذي يؤثر حقاً في حياة البشر ويحوّلها-يكاد يكون دائماً نتيجة للتركيز والمثابرة اللذين يلازمان بالأساس إنجاز مهمة معينة، عوضاً عن لقاء يتم مصادفة مع ذهن شارد، مثلما جاء في مقولة توماس إديسون الشهيرة "العبقرية واحد في المائة إلهام و99 في المائة عرق" أو نحو ذلك. وهذا من المنطقي جداً؛ حيث أن العمل الدؤوب بالتحديد والإصرار بغية إنجاز مهمة أو هدف معين يهيئان الظروف اللازمة لنشأة لحظات النشوة بالاكتشاف تلك، ناهيك عن تلك الخطوات المتخذة فيما قبل الاكتشاف أو بعده التي لا تقدر حق تقديرها والتي تمكن من تحويل تلك الأفكار الخلاقة لتصبح ابتكارات باهرة في آخر المطاف..
ويصح هذا في مجال الأدوية الحيوية أكثر من أي مجال آخر. فبجدول زمني يتراوح متوسطه ما بين 10 و15 سنة في مجال البحث والتطوير، لا يبدأ الابتكار في مجال الأدوية الحيوية-من قبيل ذلك الابتكار الذي يحمي طفلاً من الإصابة بآفة أو يطهر أعماق الجسد من فيروس أو يشفي تماماً من ورم أو يحول حكماً بالموت إلى وضع يمكن تدبره-ولا ينتهي مع لحظة نشوة بالاكتشاف. وهو عملية متواصلة ومعقدة وشاقة تستهل بصعوبات محبطة (عشرة آلاف إخفاق إلى نجاح واحد في بعض الأحيان)، وحيث الإخفاقات وما تلقنه من دروس تكتسي نفس أهمية النجاحات. ولهذا السبب نوجه عملنا، في نوفارتيس، ليس نحو اختراع أدوية فحسب، بل نحو مهمة أوسع نطاقاً إلى حد كبير "لاكتشاف طرق جديدة لتحسين حياة البشر وإطالتها".
وهذه المهمة الواسعة النطاق توفر السياق ومحور التركيز لنهجنا القائم على العلم في مجال البحث والتطوير، ولكل ما نقوم به تقريباً، بما في ذلك نهجنا في منح البراءات، وكما سيعرفه معظم قراء مجلة الويبو، يعد نظام البراءات أداة قوية تساعد فيما يتعلق بصناعتنا على تعويض التكاليف الباهظة والمخاطر التي يتضمنها نوع البحث والتطوير الذي نقوم به. غير أن الأهم من ذلك هو أنه أداة، وسيلة لتحقيق هدف، وليس هدفاً في حد ذاته. وعملياً، يعني ذلك أننا نركز على مهمتنا، ونتابعها حيثما أخذتنا، ونسجل براءات لتلك الاختراعات التي نخلقها على طول الطريق والتي تساعدنا على تحقيق مهمتنا وتنفيذها. وكل من يتبع النهج المعاكس- بالركض وراء البراءات لمجرد الحصول على براءات- محكوم عليه أن ينتهي بملف ملئ بالأوراق الثمينة، ومن الأرجح ألا يحقق أكثر من ذلك. وهذا، في الجوهر، هو الاختلاف الأساسي بين اختراع صِرف والابتكار الحقيقي، وهو الهدف النهائي الذي تتوخى تحقيقه مهمتنا. ولذلك، ومن باب المفارقة، فإن أفضل ما يمكن أن نقوم به للإقرار بالأهمية الحاسمة للنظام، في اليوم العالمي للملكية الفكرية، ليس هو التركيز على الملكية الفكرية في حد ذاتها، وإنما على فسيفساء النتائج التي تتيحها.
وهناك بطبيعة الحال ابتكارات يشهدها كل واحد - مثل الحبوب في القارورة والأقراص في علبة بليستر والمرهم في الأنبوبة والسائل في الأنبولة- المواد التي تنقذ الأرواح وتصوغ تاريخ البشرية. ففكر في دواء ما وانظر داخل خزانتك وعلب حبوب الدواء وتأمل في علاج منحك أنت أو أحد أحبائك أملاً جديداً في الحياة، وكن على يقين أن لنظام البراءات دور محوري في استحداثه: المضادات الحيوية واللقاحات ومسكنات الألم والعقاقير المضادة للفيروسات الرجعية والعلاج المناعي والنيوكليوتيدات مثبطات البلمرة التناظرية، على سبيل المثال.
وبفضل أدوية من هذا القبيل، يتم كل عام إحباط الملايين من الأمراض التي قد تسبب الهلاك ويسهل تحمل صعوبات الحياة والخدوش وأوجاع الرأس وتتراجع معدلات الوفيات من جراء مرض السرطان انظر الرابط ، وتتجاوز الآن معدلات الشفاء من التهاب الكبد الوبائي (ج) 90 في المائة (انظر الرابط https://tinyurl.com/mgnscjn) وتنخفض الوفيات الناجمة عن فيروس نقص المناعة البشري/الأيدز بنسبة 87 في المائة انظر الوثيقة .
واسمحوا لي بذكر أمثلة قليلة من حافظتنا. فالابتكار القائم على العلم ونظام البراءات الذي مكن من تحقيقه أفرزا دواء جلايفيك/جليفيك (Glivec®/Gleevec®)، وهو دواء مثبط التيروزين كيناز يرد الآن في قائمة الأدوية الأساسية لمنظمة الصحة العالمية. ويسمى "الدواء المعجزة" لدوره في تحويل سرطان كان قاتلاً في السابق، ألا وهو ابيضاض الدم النقوي المزمن، إلى حالة مزمنة يمكن تدبيرها، وأطلقت عليه جائزة مؤسسة جالينوس المرموقة (Prix Galien Foundation) اسم "اكتشاف العقد" في عام 2016.
وحاز اكتشافنا في الداخل لعقار كوزنتيكس(Cosentyx®)، وهو علاج لمرض الصدفية، على جائزة جالينوس لأفضل منتوج بيوتكنولوجي في عام 2016، وتعتبر الآن الكلية الأمريكية لأمراض القلب وجمعية القلب الأمريكية والجمعية الأوروبية لأمراض القلب من بين مؤسسات أخرى عقار أنتريستو (Entresto®)، الذي هو أول طفرة تحدث منذ عقود في علاج قصور القلب مع تخفيض الجزء المقذوف من الدم، معياراً جديداً للرعاية .
قصة أكثر عمقاً للابتكار
وبينما قد تحظى الأدوية باعتبارها منتجات نهائية بالإشادة وتصنع كتب التاريخ، فهي القمة الظاهرة فقط من قصة ابتكار أعمق بكثير. وهذه القصة، للأسف، غير واضحة بجلاء للمراقب المؤقت وغالباً ما لا تذكر. وانظر داخل سيارة حديثة، فمن السهل رؤية مجموعة الابتكارات المذهلة التي استخدمت في صناعتها. وفي المقابل، ليس للأدوية أبواب تفتح أو أغطية ترفع. غير أن هذا لا يعني وجود عدد أقل من الابتكارات بداخلها. ويتطلب صنع دواء أكثر من مجرد العثور على مواد جديدة وتجميعها في عقاقير. ومثلما تحتاج السيارة أن تكون صالحة للقيادة على الطريق وفعالة كعربة وآمنة للسياقة وقابلة للإنتاج باستمرار ومستوفية للمعايير التنظيمية- يجب إذن أن تمتثل مادة صيدلية ما لمعايير سلامة وفعالية وجودة صارمة قبل إعطائها للمرضى. وهذه مهمة بعيدة كل البعد عن السهولة، كما يبرهن على ذلك كون أقل من 12 في المائة من الأدوية المرشحة للخضوع لتجارب سريرية تصبح أدوية موافق عليها.
وولوج "نادي 12 في المائة" يستلزم علماً وعملاً دؤوباً وأنواعاً شتى من الابتكارات. وقد يشمل هذا خلق أكثر أنواع المواد أمناً أو فعالية أو كفاءة؛ من خلال صياغته باستخدام المكونات الصحيحة؛ وتصور الأمراض أو الحالات التي يتناسب معها بوجه أفضل؛ وتحديد الجرعات المناسبة والروشتة. ويمكن أن ينطوي أيضاً على اختراع طرق جديدة لصنع المادة لترتقي إلى مستوى معايير الجودة وهو الأمر الذي يكتسي أهمية بالغة بالنسبة للمواد الحيوية المعقدة (جزيئات كبيرة) والبدائل الحيوية.
وهناك، بطبيعة الحال، 88 في المائة الأخرى- وهي المشاريع التي فشلت في مرحلة التجارب السريرية. وتعتبر أيضاً جزءاً من قصة الابتكار. لماذا؟ لأن الطريق إلى الفشل كثيراً ما يقترن بمجموعة من النجاحات المؤقتة، سيطبق العديد منها في أبحاث أخرى. ولأن كل "فشل" يعد نجاحاً كذلك إذا ما قادنا إلى اتباع مسار مختلف ينجم عنه استحداث دواء في آخر المطاف. ومع أن هذه الاكتشافات والتطورات المؤقتة (حيثما قد تنشأ) قد لا تتصدر العناوين الرئيسية، إلا أنها تمثل الهيكل الأساسي للأدوية القليلة الثمينة التي ستحقق نجاحاً. وهذا سرد يستحق عناية أكبر في قصة الابتكار.
وهذا ما يقوم به، في هذا الصدد، الفصل الذي يلي تسويق دواء ناجح. ويعتبر الدواء المسوق، نوعاً ما، مجرد خطوة هامة أخرى على طريق أطول إلى تحسين حياة الأشخاص وتمديدها (رغم أهميته البالغة). وفيما أن استحداث دواء جديد تماماً يمثل، في بعض الأحيان، المحطة المقبلة، إلا أن التقدم ينجم غالباً عن إدخال تحسينات تدريجية على علاجات موجودة أصلاً.
ويحاجج البعض بالقول إن تحسينات من هذا القبيل بسيطة ولا تستحق أن تمنح حماية براءات. بيد أن قوانين البراءات تستهدف صراحة تحفيز "التحسينات" لقرون. ومنح أول قانون براءات أمريكي (1790)، على سبيل المثال، براءات "لأية مهارة علمية نافعة أو سلعة أو محرك أو آلة أو جهاز أو أية تحسينات تضمنتها غير معروفة أو مستخدمة من قبل". وكتب لاحقاً، توماس جيفرسون، صائغ هذا القانون، في رسالة إلى مارك بيكتي يقول فيها: "إن العديد من التحسينات العبقرية جاءت نتيجة لقانون البراءة".
وبالفعل، لا ينبغي تقييم العبقرية بالإحالة إلى ما تفرزه فحسب. وإذا كان هدف نظام البراءات يتمثل في تشجيع الابتكار، والابتكارات هي اختراعات ذات تأثير بالغ، فإن السؤال الجدير بالطرح بشأن اختراع يستحق الحصول على براءة ليس معرفة مدى اسهامات هذا الاختراع في الماضي وإنما معرفة ما سيجلبه لمستقبلنا. وفي حالة الأدوية، قلما تكون الصيغة الجديدة لدواء "بسيطة" إذا ما سمحت، لأول مرة، لطفل بتناول دواء كان مخصصاً في السابق للبالغين (أي وضع صيغة خاصة بالأطفال)، أو جعلت من الممكن توزيع الأدوية الموجودة في المناطق النائية (الصيغ التي تتحمل الحرارة مثلاً).
ولا بساطة في الاستخدام الجديد والابتكاري لدواء موجود يستهدف معالجة مرض مختلف بفعالية. وهذه التحسينات وغيرها، التي يمكن ترجمتها لكل شيء انطلاقاً من تخفيف الآثار الجانبية ووصولاً إلى استخدام أوسع للدواء من طرف المرضى والامتثال بوجه أفضل للمعايير وتحقيق نتائج صحية، تعتبر سرداً مهماً آخر في قصة الابتكار يكتسي أهمية بالغة لا يمكن تجاهلها.
وثمة أشياء أخرى أيضاً، مثل الدور الحيوي الذي تؤديه الملكية الفكرية في إتاحة أدوية نوعية تحتل أهمية بالغة بالنسبة للأنظمة الحالية للرعاية الصحية المراعية للميزانية. والأدوية النوعية الراهنة هي نسخ فقط عن أدوية الأمس الابتكارية، أتيحت بتكلفة منخفضة من خلال التخلي على مجال البحث والتطوير المستقل واستنساخ النتائج الناجحة ما إن تنته مدة صلاحية البراءات. ومن الأرجح أن تحدو الأدوية النوعية في الغد حدو الأدوية الابتكارية اليوم، بالاعتماد على أعمال البحث والتطوير القائمة على الملكية الفكرية التي ينجزها المبتكرون من أجل خلق أدوية جديدة.
تيسير الوصول
وتوجد المزيد من المعلومات المعقدة أيضاً، مثل الدور الذي تؤديه الملكية الفكرية ليس في السماح باختراع علاجات الغد فحسب، وإنما في تيسير الوصول إلى أدوية اليوم من خلال تهيئة الظروف التي تساعد على ضمان حصول المرضى على الأدوية بالفعل. وتبين الأدلة على أن نظاماً قوياً للملكية الفكرية يؤدي إلى تعجيل إطلاق أدوية جديدة والوصول إليها بسرعة أكبر؛ وإدخال أدوية قد لا تكون متاحة في سوق معينة لولا ذلك (سواء في صيغة علامة تجارية أو دواء نوعي)؛ والاستثمار في أنشطة من قبيل بناء سلاسل التوزيع وتوعية الأطباء والمرضى، الذي تبين أنه يؤدي إلى تحسين الحصول على الأدوية وتحقيق نتائج صحية أفضل.
وهناك مجموعة من الطرق البديلة التي يمكن أن نطبق بواسطتها ابتكاراتنا وخبراتنا وامتدادنا على الصعيد العالمي للدفع بالصحة العامة إلى الأمام وتحسين حياة البشر. ويشمل ذلك عملنا على تطوير دواء كوارتم (Coartem®)، وهو علاج متطور لمكافحة الملاريا الذي وفرناه دون تحقيق ربح لما يزيد على 60 بلداً من البلدان التي تستوطنها الملاريا (أكثر من 800 مليون علاج حتى يومنا هذا). والمشاريع الاجتماعية، مثل البرنامج الرائد نوفارتيس أكسيس (Novartis Access) الذي يتيح الوصول بأسعار معقولة لحافظة أدويتنا لعلاج الأمراض غير المعدية. بل إنه يشمل شركات ابتكارية مثل عملنا مع الويبو والمنتدى الاقتصادي العالمي لإنشاء منصة دولية (برنامج مساعدة المخترعين Inventors Assistance Program) الذي يدمج مخترعي البلدان النامية في النظام البيئي العالمي للابتكار.
وأخيراً، قد يكون هناك أقدم سرد على الإطلاق مفاده: "أن التغير هو الثابت الوحيد". ويتغير العلم بالتغير السريع لفهمنا للأمراض. وتتغير الأدوية باستمرارنا بالانتقال من الجزيئات الصغيرة الكميائية إلى الجزيئات الكبيرة الحيوية، ومن علاج واحد يناسب الجميع إلى رعاية شخصية. وتتغير التكنولوجيا ما إن تتقارب مجالات متباينة، مما يجلب التطبيقات والبرامج المعلوماتية والبيانات والأجهزة المنقولة وحتى "العدسات الذكية" و"الرقاقات المثبتة على حبة دواء" إلى مجال الأدوية. ومع كل هذه التغيرات سينمو الابتكار الذي يحدد مستقبلنا متشابكاً ومترابطاً ومعقداً بقدر أكبر.
والآن، وأكثر من أي وقت مضى، يجب تسليط الضوء على الدور الذي تؤديه الملكية الفكرية والابتكار في تمديد حياة البشر وتحسينها. وثمة رهانات كثيرة حتى نتركها كامنة في الأسفل.
الغرض من مجلة الويبو مساعدة عامة الجمهور على فهم الملكية الفكرية وعمل الويبو، وليست المجلة وثيقة من وثائق الويبو الرسمية. ولا يراد بالتسميات المستخدمة وبطريقة عرض المادة في هذا المنشور بأكمله أن تعبر عن أي رأي كان من جهة الويبو بشأن الوضع القانوني لأي بلد أو إقليم أو منطقة أو سلطاتها أو بشأن تعيين حدودها أو تخومها. ولا يراد بهذا المنشور أن يعبر عن آراء الدول الأعضاء أو أمانة الويبو. ولا يراد بذكر شركات أو منتجات صناعية محددة أن الويبو تؤيدها أو توصي بها على حساب شركات أو منتجات أخرى ذات طبيعة مماثلة وغير مذكورة.